المقدمة
بين الحين والآخر يثار تساؤل في مجموعات المترجمين وفي المنتديات المهنية حول أخلاق المترجم المسلم و كيفية التعامل مع طلبات ترجمة نصوص قد تحتوي على مخالفات شرعية أو مضامين تتعارض مع تعاليم الإسلام وقيمه. في هذه المناقشات، تنقسم الآراء وتختلف وجهات النظر بين مؤيد ومعارض، بين من يرى عملية الترجمة مجرد نقل نص من لغة إلى أخرى دون مسؤولية عن المحتوى، وبين من يرى أن المترجم المسلم مسؤول أخلاقياً ودينياً عما ينقله ويسهم في نشره.
ولذا، أردت أن أكتب هذا الموضوع لتقديم رؤية شرعية متوازنة حول أخلاقيات المترجم المسلم ومسؤولياته، وكيفية التعامل مع المواقف المختلفة التي قد يواجهها في مسيرته المهنية، مع الأخذ في الاعتبار الواقع العملي والتحديات التي قد تفرضها طبيعة العمل في عالم متنوع ثقافياً وفكرياً، مع الحفاظ على الثوابت الدينية والأخلاقية
التي ينبغي أن تحكم عمل المترجم المسلم.
الأمانة والصدق
تعتبر الأمانة حجر الزاوية في أخلاقيات المترجم المسلم، حيث قال الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا” (سورة النساء: 58)، فعلى المترجم المسلم أن يكون صادقًا في نقله، موضوعيًا في اختياراته. فلا يسمح لميوله الشخصية أو خلفياته الثقافية أن تؤثر على الترجمة. والصدق في العمل من شيم النبي ﷺ، حيث عُرف بالصادق الأمين، وينبغي أن يقتدي المترجم به في أداء مهمته.
ويتجلى ذلك في:
نقل المعنى بدقة دون تحريف أو تشويه.
عدم حذف أي معلومات مهمة من النص الأصلي.
عدم إضافة آراء شخصية غير موجودة في النص الأصلي.
الإشارة بوضوح إلى أي صعوبات في الترجمة قد تؤثر على فهم النص.
1- الإتقان والإخلاص في العمل
يجب أن يسعى المترجم المسلم لإتقان عمله والتطوير من نفسه دائما ولا يكتفي بما تعلمه في الجامعة أو في مبتدأ حياته، فيسعى للتطوير ويتعلم كل جديد يصل لدرجة الإتقان التي يرتضيها، وقد أكد الإسلام على إتقان العمل والإخلاص فيه أي كان هذا العمل، كما ورد في الحديث الشريف: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”. وهذا يتطلب من المترجم المسلم:
السعي المستمر لتطوير مهاراته اللغوية والمعرفية
الاطلاع على المستجدات في مجال تخصصه
تخصيص الوقت الكافي لإنجاز العمل بجودة عالية
مراجعة الترجمة وتدقيقها قبل تسليمها
2- الحفاظ على سرية المعلومات
يجب على المترجم المسلم الالتزام بالمحافظة على سرية المعلومات التي يطلع عليها أثناء عمله، خاصة إذا كانت ذات طبيعة شخصية أو تجارية حساسة أو نصوص ذات طابع سري، وهنا تبرز أخلاقيات حفظ السر، وهو أمر أكد عليه الإسلام في قوله تعالى: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا” [الإسراء: 34].
فالعهود والمواثيق تشمل أيضًا الاتفاقات المهنية التي تلزم المترجم بحفظ أسرار العملاء والمؤلفين.
3- احترام الثقافات المختلفة
عند ترجمة نصوص دينية أو ثقافية، يجب أن يكون المترجم المسلم واعياً بحساسية المحتوى، فلا يُهين معتقدات الآخرين، ولا يُهمل ما له قيمة دينية أو ثقافية. بل ينبغي أن يسعى إلى تقديم النصوص بما يحفظ كرامة الطرفين: المؤلف والقارئ.
4- التواضع وعدم التكبر بالعلم
يجب على المترجم المسلم أن يتحلى بالتواضع وعدم التكبر بمعرفته وقدراته، وأن يعترف بحدود معرفته ويسعى للاستشارة والتعلم المستمر. قال الله تعالى: “وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ” (سورة يوسف: 76).
5- التعاون وبناء جسور الحوار
من مسؤوليات المترجم المسلم الإسهام في بناء جسور الحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة. قال الله تعالى: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ” (سورة المائدة: 2).
الموضوعات المحرمة التي يجب على المترجم المسلم تجنبها
وهذا هو لب الموضوع وأهم ما فيه، فقد يواجه المترجم المسلم في بعض الأحيان طلبات لترجمة محتويات تتعارض مع الشريعة الإسلامية وقيمها، وهنا عليه التمييز
بين ما يجوز ترجمته وما يجب تجنبه. وفيما يلي أهم الموضوعات التي ينبغي على المترجم المسلم رفض ترجمتها:
1- المواد الإباحية والمحتوى الفاحش
ترجمة الروايات والقصص التي تحتوي على وصف تفصيلي للعلاقات الجنسية المحرمة
ترجمة النصوص التي تروج للفاحشة أو تزينها
ترجمة المحتوى الذي يستغل الأطفال أو يشجع على الاعتداء على القاصرين
قال تعالى: “وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ” (سورة الأنعام: 151).
2- المواد التي تسيء للذات الإلهية والأنبياء والمقدسات
ترجمة الكتب أو المقالات التي تسخر من الله سبحانه وتعالى أو من الأنبياء والرسل
ترجمة المحتوى الذي يتضمن سباً أو استهزاءً بالقرآن الكريم أو الأحاديث النبوية
ترجمة المواد التي تشوه الإسلام بصورة متعمدة وغير موضوعية
الاستهزاء بالأديان السماوية الأخرى والأنبياء والرسل والملائكة
قال تعالى: “وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ” (سورة الأنعام: 108).
3- المحتوى الذي يروج للإلحاد ويشكك في العقيدة
ترجمة المواد التي تدعو صراحة إلى الإلحاد ونبذ الأديان السماوية
ترجمة النصوص التي تهدف إلى تشكيك المسلمين في دينهم وعقيدتهم
ومع ذلك، يجوز للمترجم المسلم المتخصص في العلوم الشرعية ترجمة مثل هذه النصوص بهدف الرد عليها وتفنيدها، شريطة أن يكون مؤهلاً لذلك وضمن سياق علمي محدد.
4- المحتوى الذي يروج للمعاملات المالية المحرمة
• ترجمة العقود والاتفاقيات التي تتضمن الربا الصريح
• ترجمة المواد الإعلانية والترويجية للقمار والميسر
• ترجمة النصوص التي تشجع على الغش والاحتيال المالي
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (سورة آل عمران: 130).
5- النصوص التي تروج للعنصرية والكراهية
ترجمة المحتوى الذي يحرض على العداء والكراهية ضد فئات معينة
ترجمة المواد التي تروج للتمييز العنصري أو الطائفي
ترجمة النصوص التي تدعو إلى العنف غير المشروع ضد الأبرياء
6- المحتوى الذي يروج للمواد المحرمة والضارة
ترجمة المواد التي تشرح طرق تصنيع المخدرات أو ترويجها
ترجمة النصوص التي تروج للمشروبات الكحولية وتشجع على تعاطيها
ترجمة المحتوى الذي يعلّم طرق الاعتداء على الآخرين أو إيذائهم
كيفية التعامل مع اكتشاف المحتوى المحرم بعد قبول العمل:
يحدث أحياناً أن يقبل المترجم المسلم عملاً ما، ثم يكتشف لاحقاً أن النص يحتوي على محتوى محرم لم يكن ظاهراً في البداية. في هذه الحالة، ينبغي عليه اتباع الخطوات التالية:
1- تقييم طبيعة المحتوى المحرم ودرجة خطورته
المحتوى المحرم الأساسي: كالإساءة الصريحة للدين أو الدعوة للفاحشة، وهذا يستوجب الانسحاب من العمل.
المحتوى المحرم الثانوي: كإشارات عابرة أو عبارات يمكن التعامل معها دون الإخلال بأصل العمل.
2- التواصل مع العميل بشكل مهني
شرح السبب الشرعي للاعتراض على المحتوى المحرم بأسلوب مهذب وموضوعي.
تقديم البدائل الممكنة للتعامل مع الموقف.
عدم إصدار أحكام أخلاقية على العميل أو النص.
قال تعالى: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (سورة النحل: 125).
3- الخيارات المتاحة للمترجم المسلم
أ. الاعتذار والانسحاب من العمل
إذا كان المحتوى المحرم أساسياً في النص ولا يمكن تجاوزه، فينبغي على المترجم المسلم:
إعلام العميل بقراره الانسحاب من العمل مع شرح الأسباب الشرعية بوضوح.
إرجاع أي مبالغ مالية قد استلمها مقدماً مقابل العمل.
الاعتذار عن عدم مواصلة العمل بأدب واحترام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (رواه مسلم).
ب. اقتراح التعديلات على النص
إذا كان المحتوى المحرم ثانوياً أو يمكن تعديله دون الإخلال بمقصد النص الأصلي، فيمكن للمترجم:
اقتراح تعديلات محددة على العميل لإزالة المحتوى المحرم.
تقديم بدائل مناسبة للعبارات أو المقاطع المحرمة.
التوضيح للعميل أن هذه التعديلات ضرورية لاستمراره في العمل.
4- التعلم من التجربة والوقاية مستقبلاً
بعد مواجهة مثل هذه المواقف، ينبغي على المترجم المسلم:
مراجعة المحتوى بشكل دقيق قبل قبول العمل.
إضافة بند في عقد العمل يوضح موقفه من ترجمة المحتوى المحرم.
بناء قاعدة عملاء تتفهم التزاماته الدينية والأخلاقية.
قال تعالى: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ” (سورة العنكبوت: 69).
5- الاستشارة الشرعية
إذا كان المترجم غير متأكد من حكم ترجمة نص معين، فينبغي عليه:
استشارة أهل العلم الثقات للحصول على فتوى شرعية.
البحث عن فتاوى متخصصة في قضايا الترجمة والنشر.
تقديم تصور واضح للمسألة للمفتي حتى يصدر حكماً دقيقاً.
التعامل مع الحالات الحدودية
قد يواجه المترجم المسلم حالات لا يكون فيها التصنيف واضحاً، وفي هذه الحالات ينبغي عليه:
استشارة أهل العلم والاختصاص للحصول على فتوى شرعية في المسألة المعروضة عليه
تقييم المصالح والمفاسد المترتبة على قبول العمل أو رفضه
النظر في السياق العام للنص والغرض من ترجمته
تطبيق قاعدة سد الذرائع إذا كان من المحتمل أن تؤدي الترجمة إلى مفسدة محققة
استراتيجيات للتعامل مع المحتوى المشكوك فيه
الاعتذار بأدب عن ترجمة المحتوى المخالف للشريعة الإسلامية
اقتراح تعديلات على النص الأصلي بما لا يخل بالمعنى الأساسي ويتوافق مع القيم الإسلامية
الإشارة إلى المشكلة الشرعية في النص عند الترجمة، إذا كان لا بد من ترجمته لأسباب علمية أو بحثية
“ناقل الكفر ليس بكافر”… ولكن!
قد يظن بعض المترجمين أن عبارة “ناقل الكفر ليس بكافر” تبرر لهم ترجمة أي محتوى، حتى لو كان فيه طعن في الإسلام أو نشر للفساد العقائدي أو الأخلاقي، وهذا فهم غير دقيق.
هذه القاعدة الفقهية لا تعني جواز نقل الكفر أو الباطل بغرض الترويج أو التسهيل أو التبرير، بل قيلت في سياق التحذير أو التوثيق العلمي المنضبط، وفي حالات الضرورة والضوابط المعروفة.
أما في مهنة الترجمة، فالمترجم لا يكون مجرد ناقل محايد، بل هو في كثير من الأحيان يُعيد إنتاج النص ويمنحه حياة جديدة في بيئة لغوية وثقافية مختلفة، ولذلك لا يصح أن يكون أداة لنقل:
- شُبهات الطاعنين في الإسلام.
مفاهيم تحرّض على الشرك أو الإلحاد.
أو أي محتوى يُهين الله أو الدين أو الأنبياء.
ترجمة أي محرمات تنشر بين الناس باللغة الجديدة خاصة بين المسلمينبل يجب أن يتذكّر دائمًا قول النبي ﷺ: “مَن دلّ على شرّ، فله من الوزر مثلُ أوزار من تبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئًا.” [صحيح الجامع].
فالمترجم المسلم مسؤول عن ما يُخرج من قلمه، كما هو مسؤول عمّا ينقله من لسان غيره.
الخاتمة
إن المترجم المسلم لا ينفصل عن أخلاق الإسلام في أدائه المهني، بل يجعلها أساسًا في عمله، فيكون عمله وسيلة للدعوة، وجسرًا للتفاهم، وأداة لنشر الحق. ومتى ما اجتمعت الكفاءة مع الأخلاق، أُوتي العمل ثماره، وكان للترجمة دورها الحقيقي في بناء الجسور بين الأمم. وتذكر أخي المترجم قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنك لن تدع شيئاً لله عز وجل إلا بدلك الله به ما هو خير لك منه” رواه أحمد، وأن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه. نسأل الله أن يوفق جميع المترجمين المسلمين لما فيه خير الإسلام والمسلمين وخدمة الإنسانية جمعاء.